الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين.
وبعد فإن الشريعة جاءت برفع الحرج عند الشدائد والتخفيف على
العباد في كل أمر فيه كلفة ومشقة
ظاهرة. قال تعالى: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ).
وقال تعالى: (وَمَا
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).
وفي صحيح البخاري من حديث أبي
هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إن الدين
يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا
بالغدوة
والروحة وشيء من الدلجة).
والله يحب أن تؤتى رخصه. قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إن الله
يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) رواه أحمد.
وقد ثبت في السنة الرخصة في
العبادة في الحضر والسفر في أحوال خاصة.
و مما ورد فيه التخفيف والترخص
في الصلاة وقت نزول البرد الشديد على الناس.
وضابط الشدة في البرد
أن يخشى الإنسان منه حصول الهلاك في نفسه
أو التلف في عضوه ، أو يجد فيه
مشقة ظاهرة وكلفة في أداء العبادة
توجب له المرض أو الأذى. وهذا
يكون غالبا
في أيام معدودة في البلاد المعتدلة وكثيرا في البلاد
الباردة.
أما البرد المتوسط والخفيف الذي لا يخشى منه حصول
ضرر أو مشقة
ويكون معتادا في كثير من البلاد فلا يترخص فيه
وحكمه حكم سائر أجواء المناخ
الذي لم يعلق الشارع فيه رخصة
أو حكما خاصا.
والمرجع في تعيين البرد الشديد من غيره إلى عرف أو
ساط الناس المعتدلين
في تحمل البرودة فما عدوه بردا
شديدا كان كذلك و مالا فلا.
ولا عبرة برأي غيرهم ممن كان
شديد التأثر بالبرودة أو قليل التأثر بها
كمن لا يشعر بها. ويمكن
الإعتماد في هذا الزمن علىالأجهزة الحديثة
في قياس درجة الحرارة ومستوى
البرد فهي من الوسائل النافعة
التي تعين على تيسير العبادة
في باب الرخص كالتيمم والمسح وغيره.
فإذا كانت مثلا درجة الحرارة
هي صفر أو أقل منها كان البرد شديدا.
وهذا يختلف بحسب اختلاف البلاد
والأعراف.
والرخصة في الصلاة حال شدة البرد في أمرين:
1. ترك
الجماعة:
فيباح لمن نزل به برد شديد أن يصلي في بيته
ويترك الجماعة في المسجد.
والأصل في ذلك ما روى نافع قال:
أذن ابن عمر في ليلة باردة بضجنان،
ثم قال: صلوا في رحالكم،
فأخبرنا:
(أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان يأمر مؤذنا يؤذن، ثم يقول على إثره:
ألا صلوا في
الرحال. في الليلة الباردة، أو المطيرة في السفر) متفق عليه.
وبوب أبو داود على الحديث
بقوله (باب التخلف عن الجماعة في الليلة الباردة).
وقال ابن قدامة في المغني:
(ويعذر في ترك الجماعة بالريح
الشديدة في الليلة المظلمة الباردة).
وقيد بعض الفقهاء
الرخصة في البرد بالليل
والصحيح أن الرخصة عامة في
الليل والنهار لوجود المشقة في كليهما
وعدم الفرق المؤثر بينهما
والحديث خرج مخرج الغالب وهو مذهب الشافعية.
كما أنه لا يشترط في الترخص
بالبرد وجود الريح
فمتى ما وجد برد شديد حصلت
الرخصة
وإن لم يكن معه ريح وإن كان الغالب حصول البرد
بالريح الشديدة.
2. الجمع
بين الصلوات التي تجمع حال العذر:
فيباح لمن نزل به برد شديد أن
يجمع بين الصلاتين.
والأصل في ذلك ما أخرجه مسلم عن
ابن عباس رضي الله عنهما قال :
(صلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا،
والمغرب
والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر ولا مطر)
قيل لابن عباس : (ما حمله على
ذلك؟ قال : أراد أن لا يحرج أمته).
وقال الإمام أحمد في رواية
الميموني:
(إن ابن عمر كان يجمع في الليلة الباردة).
وقال ابن قدامة في المغني:
(فأما الريح الشديدة في الليلة
المظلمة الباردة ففيها وجهان:
أحدهما يبيح الجمع. قال الآمدي
وهو أصح. وهو قول عمر بن عبد العزيز
لأن ذلك عذر في الجمعة
والجماعة).
والصحيح أن الجمع لأجل البرد لا يختص بصلاتي
المغرب والعشاء
بل يشمل الجمع أيضا بين صلاتي الظهر والعصر
لظاهر الخبر
وعموم المشقة وعدم التخصيص من قبل الشرع
وهو قياس قول الشافعية في
الجمع للمطر ورواية في مذهب أحمد.
فالمشروع للمسلم أن
يترخص برخص الله ولا يشدد على نفسه وغيره.
وليس النسك والخشية في سلوك
الشدة والأخذ بالعزيمة على كل حال.
وإنما ينظر المسلم في الأدلة
الشرعية والقواعد المرعية
فما شدد فيه الشارع شدد فيه وما
سهل فيه الشارع سهل فيه.
وهذا هو الفقه المحمود شرعا.
فعلى هذا ينبغي على
الإمام أن يرفق بجماعته
إذا وجد العذر الموجب للرخصة
والتخفيف.
وفي المقابل لا يشرع له أن يتساهل في العبادة
ويترخص لأمر لا مشقة فيه ولا
حرج ولكن يتبع
الشرع في ذلك ويسأل أهل العلم فيما أشكل
عليه.
والله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله
وصحبه أجمعين.